إلى
رحمة الله
فضيلة
الشيخ خورشيد عالم الديوبندي رحمه الله
1353-1433هـ
= 1934-2012م
بقلم : رئيس التحرير
والقصة في نحو الساعة الواحدة من الهزيع الأخير من الليلة المتخللة بين الإثنين والثلاثاء: 13-14/ربيع الأول 1433هـ الموافق 6-7/فبراير 2012م انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم المتمكن من علوم الشريعة الإسلاميّة فضيلة الشيخ خورشيد عالم الديوبندي رحمه الله تعالى، بعد معاناة مع المرض. وذلك في 78 من عمره بالنسبة إلى التقويم الميلادي، و80 من عمره بالقياس إلى التقويم الهجري؛ حيث كان من مواليد عام 1934م الموافق 1353هـ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان
الشيخ يعاني بعضَ أمراض القلب منذ سنوات؛ ولكنه لكونه عُجِنَت طينتُه بالنشاط
والثقة بالذات وضبط الأوقات والمحافظة عليها، كان يعيش الحياة معتمدًا على ساعديه،
واثقاً بنفسه، زاهدًا في الاستعانة بغيره حتى بأولاده وذويه وأهله؛ ففي اليوم الذي
سَبَقَ الليلةَ التي تُوُفِّيَ فيها باشر أعمالَه الحياتية بنفسه حتى أعمال البيت
اليومية، فذهب كالعادة إلى الجزّار في ملحمته واشترى منه من اللحم ما كان يشتريه
كلَّ يوم، وقام بوظائف أخرى كان يقوم بها في الأوقات التي خَصَّصَها لها، وتناول
الغداء وتَمَدَّد أداءً للسنة النبوية في القيلولة، وفي الساعة الرابعة عصرًا شكا
الألمَ الشديد في قلبه وحاول أن يتعامل معه بنفسه؛ ولكنه من ضغطه الشديد اضطر أن
يحيط بذلك أهلَه، فنقلوه عصرًا إلى مستشفى محلّي خاصّ على شارع المحطة بمدينة
ديوبند، وركّز الأطباء عنايتَهم على العلاج؛ ولكن موعد الأجل المحتم كان قد حان،
فلفظ أنفاسه الأخيرة في نحو الساعة الواحدة من الليلة المذكورة.
أَيْقَظَنا
في الليلة من النوم الإعلانُ الذي رَفَعَه مكبرُ الصوت من على منارتي المسجد
القديم بجامعتنا: الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند : أيها السادة! استمعوا إلى
الإعلان الهام جدًّا بأن فضيلة الشيخ المفتي خورشيد عالم الديوبندي شيخ الحديث
بدارالعلوم وقف بديوبند انتقل إلى رحمة الله تعالى منذ دقائق، فإنّا لله وإنا إليه
راجعون. قد هرب النوم من عيوننا، وظلنا نتقلب على الفراش، ثم فارقناه بعد برهة،
وقمنا بوظائفنا اليومية التي تعودناها في الجزء الأخير من الليل من الصلاة
والأدعية والذكر والتلاوة، ثم صلينا الفجر، وأدينا الواجبات اليومية، بعد الفطور
وشأي الصباح، ثم قصدنا منزل الشيخ الفقيد في حيّ «بهائيان» شرقيَّ المسجد الجامع
بالمدينة، وتبادلنا بعض أهاليه التعازي. وكان الحزن يلف مُنَاخَ المدينة كله؛ لأنه
كان عالماً فريداً من نوعه، وكان حلقة أخيرة في السلسلة الذهبية للأساتذة
والمدرسين لعلوم الشريعة من الطبقة العليا التي قرأنا عليهم نحن جيلَ الستينات من
القرن العشرين الميلادي الماضي، فكانت الألسنةُ كلُّها دونما استثناء تجمع على
الثناء عليه وكيل المدح المكثف له؛ حيث عاش حياةً نزيهةً صافيةً لم يُكَدِّرها ما
يُكَدِّر في الأغلب حياةَ الناس وحتى العلماء ورجال الدين مهما كانوا كبارًا في
العلم والفضل.
وكان
قد أُعْلِن من ذي قبل أن الصلاة على الفقيد الغالي ستقام في محيط «مولسري»
بالجامعة فيما بعد صلاة الظهر مباشرة. وكنتُ اصطحبتُ طالبين بالجامعة إليها قبل
رفع أذان الظهر بنحو ساعة تحسّباً للزحام الذي كان المُتَوَقَّع حضورُه الصلاةَ
عليه رحمه الله. وما إن دخلتُ الجامعةَ من البوابة الرئيسة، حتى عنّ لي أن أزور
جثمانَه رحمه الله الذي كان قد حُمِلَ بعد الغسل والتكفين في الساعة 12 والنصف إلى
قاعة تدريس الحديث الشريف التحتانية بالجامعة للزيارة العامة، فتوجهتُ بصحبة
الطالبين إلى القاعة عبر فصول «نودره» المعروفة من الباب الذي كان قد خُصِّص لدخول
وخروج الأساتذة. وألقيتُ نظرة أخيرة على وجه الفقيد، الذي كان يعلوه البهاءُ كأنه
حيّ يمشي ويؤدي دوره في الحياة، أشهد أني قلما رأيتُ وجه الميت مبتسماً مستنيرًا
مثلَه؛ فقلت في نفسي: إنه والله وجه المؤمن الصادق الذي يكون قد تقبل الله حسناته
في الدنيا لتكون أجرًا وذخرًا له في الآخرة.
بعد
صلاة الظهر أقيمت الصلاةُ عليه حسب المعلن. حضر الصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه
الأخير في المقبرة الجامعية القاسميّة نحو 20 ألف –
كما قدر الصحفيون –
من العلماء والطلاب وأهالي المدينة وذوي الفقيد وتلاميذه ومحببيه، وأمّ الصلاةَ
عليه عالم الهند الكبير فضيلة الشيخ محمد سالم ابن المقرئ محمد طيب ابن الشيخ
الحافظ محمد أحمد ابن الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله مؤسس الجامعة
الإسلامية دارالعلوم/ديوبند.
كان
الشيخ خورشيد عالم كبير العطاء، جزيل الإفادة للتلاميذ والمستفيدين؛ من ثم حزن على
وفاته أوساط المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية كلها في شبه القارة الهندية
الباكستانية البنغلاديشية التي يكثر فيها العلماء الذين قرأوا عليه كثيراً من كتب
ومواد علوم الشريعة. وكان كاتب السطور من الذين قرأوا عليه في الجامعة الإسلامية
دارالعلوم/ ديوبند في العام الدراسي 1388-1389هـ = 1968-1969م؛ حيث قرأنا عليه
رحمه الله كتاب «مختصر المعاني» للعلامة مسعود بن عمر سعد الدين التفتازاني
(712-791هـ = 1312-1389م) وهو شرح لكتاب «تلخيص المفتاح» لمؤلفة العلامة الخطيب
محمد بن عبد الرحمن جلال الدين القزويني (666-739هـ = 1268-1338م) وعُرِف بالخطيب؛
لأنه تولى الخطابة بجامع دمشق الأموي. و«تلخيص المفتاح» تلخيص لكتاب «مفتاح
العلوم» للعلامة السكاكي: يوسف بن أبي بكر الخوارزمي السكاكي (555-626هـ =
1160-1229م) وهو حجة في علم المعاني والبيان والبديع.
كان
الشيخ يميزه في التدريس عن غيره تحضيره البالغ للجزء من الكتاب أو المادة الذي كان
يودّ أن يقوم بتدريسه في اليوم التالي، وتمكنه من الكتاب أوالمواد المُكَلَّف
تدرسهما من قبل الجامعة، وإتقانه للعلوم الشرعية والمواد الإسلاميّة التي انقطع
إلى دراستها أيام التعلم؛ فكان خلال التدريس في الفصل كثيراً ما يحيل على المباحث
والموضوعات التي تكون قد مضت في الكتاب ضمن الموضوعات الرئيسة الأخرى؛ فكان يقلب
الصفحات الماضية ويلفت انتباه الطلاب إلى المباحث المعنية الماضية بتحديد السطور،
حتى تترسخ في أذهانهم ويسهل عليهم الرجوعُ إليها واستظهارُها والتثبّت منها؛ فلا
تغيب عن ذاكراتهم أبداً، وتتقوّى ملكتهم العلمية، ويتخرجوا علماءَ مُؤَهَّلِين
تحتاج إليهم الأمة، وتقتضيهم المجالاتُ الدعوية والفكرية والتعليمية والتربوية.
كان أسلوبُ إلقائه للدروس هو الآخر مُمْتِعاً شائقاً، يجذب التفات الطلاب ويستقطب
اهتمام المستفيدين. وتلك قيمة كبيرة لايملكها إلاّ أمثالُه من الأساتذة والمدرسين
المُوَفَّقِين الذين يكتب الله عز وجل لهم النجاحَ الكاملَ في مهمتهم التدريسيّة
ووظيفتهم التعليمية، ليؤدوا دورهم في تخريج الأكفاء والمؤهلين من العلماء والدعاة،
والمفتين ورجال الدين، والكُتّاب والمؤلفين. من ثم عُدَّ الشيخ من رجالات التدريس
العباقرة في الجامعة الذين سَجَّل التاريخ أسماءَهم.
كما
كان يميزه عن غيره الوقارُ والهيبةُ اللذان كانا يعلو ان وجهَه، رغم ابتسامته التي
كان لايكثرها وإنما يتعامل بها لدى حاجة ملحة، وكان مثهلل الوجه، أبيض البشرة
مطعمة بالحمرة، واسع العينين، كثّ الحاجبين، ربعة من الرجال، يُزَيِّن مجلسَ درسه،
صوتُه العذب الصافي الجهوري الذي كان يُسْمَع في كل ناحية من نواحي الفصل، وكانت
محاضراته الدراسيّة منسقة متصلاً بعفتها ببعض، مما كان يعين الطلاب على سرعة
التقاقها وإساغتها وفهمها؛ فكان يرغب في حضور دروسه حتى الطلاب المُهْمِلُون الذين
لاتعنيهم الدراسة بمثل ما يعنيهم الغياب عن الفصل. بخصيصته البارزة هذه كان من
الأساتذة الفارعي القامة في الجامعة المُحَبِّبين إلى الطلاب فالإدارة الدجامعيّة،
فكانت له سمعة طيبة في الوسط الجامعيّ، وكان له موضع خاصّ في قلوب التلاميذ، وكان
لايشاركه فيه إلاّ من كان على شاكلته من أساتذة الجامعة، وإن كان نسيج وحده
بخصائصه الفريدة بالمجموع.
وكان
يُمَيِّزه عن غيره محافظتُه على الأوقات وتقيُّدُه بالمواعيد وكونُه بارعاً في
الإدارة وتنظيم الشؤون –
ولذلك شغل في بعض الفترات عدة مسؤوليات إدارية في الجامعة إلى جانب تدريس المقررات
الدراسية المسندة إليه تدريسُها –
إلى جانب كونه مدرساً متقناً وأستاذًا بارعاً وكونه رجلاً صالحاً زاهدًا في كل شيء
لايعنيه في الدنيا أو الآخرة، فلم يكن لديه سعة للتشاغل بالفضول؛ لأن مهمات الحياة
قد شغلت عليه فرصَه كلَّها. وكان من السعداء الذين يباشرون جلّ شؤون حياتهم
بأنفسهم، إيماناً منهم بأن جلودهم لن يحكَّها مثلُ أظفارهم هم.
إنّ
النظام المدرسيّ الخاصّ الذي هو أصلاً عطاء المجتمع الإسلامي في شبه القارة
الهندية الباكستانية البنغلاديشية، والذي كان العامل الوحيد الذي منع الاستعمار
الأجنبي المسيحي من تكرار قصة ما حدث للوجود الإسلامي على أرض إسبانيا بعد ما
حكموها قروناً طويلةً، وحافظ على الكيان الإسلامي في هذه القارة الهائلة بهويّته
الإسلاميّة الكاملة والتمسك بروح الدين الأصيلة التمسّكَ الذي ربما ينعدم نظيره
اليوم في كثير من ديار العروبة والإسلام، إنما نجح –
النظام المدرسيّ –
هذا النجاحَ الباهرَ العجيبَ؛ لأنه قيّض له الله العزيز الحكيم علماءَ غياري
متضلعين من علوم الكتاب والسنة، متشربين لروح الدين، متمتعين بمؤهلات فريدة للإفادة
ونقل ما لديهم من العلم والدين إلى المتعلمين الحريصين على التلقي والاستفادة،
حاملين لكفايات فريدة لتربيتهم وتخريجهم في قوالب العلم والدين، والفضل والصلاح،
والورع وتقوى الله، والغيرة الموفورة العديمة النظير للإسلام، والولاء الصادق
الكامل الشامل لنبيه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والحبّ المثمر لمولده
ومبعثه ومهجره وجميع الديار التي تنتمي إليه وإلى الإسلام، وسعدت بكونها مهد
الإسلام ومهبط الوحي. إن هذا النظام ظل يعتمد في نجاحه على علماء أساتذة متضلعين
بارعين في التدريس والتربية والتخريج وتسليح التلاميذ بسلاح الإيمان والإخلاص
والاحتساب وطلب الأجر من الله وحده، إلى جانب الغيرة الشديدة على الدين والعقيدة
والشريعة والعمل بها كاملاً في كل حال من الأحوال.
لقد
كان الشيخ رحمه الله من جيل الأساتذة الأكفاء المُؤَهَّلِين المُتْقِنِين المُوَفَّقِين
الذين خَرَّجَ الله على أيديهم علماء كباراً أَدَّوا دورهم في شتى المجالات التي
كتب الله لهم أداءَ الدور فيها؛ ولذلك اشتدّ حزنُ العلماء على وفاته رحمه الله،
لأن أمثاله يُفْقَدون مع الأيّام ولا يأتي من يحلّ محلَّهم؛ لأنّ الجيل المعاصر من
الأساتذة لم يَسْعَدُوا بالتخرج على جيل الأساتذة الذين كانوا يجمعون بين العلم
والدين، وبين التعمق في علوم الكتاب والسنة والتشرب لروح الدين، وبين التسلح
بالعلم والتسلح بالصلاح والتقوى. إنّ مجرد العلم الكتابي مهما كان مُتْقَنًا – على صيغة اسم المفعول – لا يُنتج العلماء الذين تحتاج إليهم
الأمة لقيادة سفينتها إلى برِّ الأمان في هذه الأمواج الطاغية من الفتنة العمياء
والشرّ المستطير.
كان
قد سَعِدَ الشيخ رحمه الله منذ صباه وفي أيام تحصيله بعلماء كان عدد منهم من
الطبقة العليا في الجامعة في العلم والدين معًا، أمثال العالم العامل المجاهد
الشيخ الصالح المربي السيد حسين أحمد المدني رحمه الله (1295-1377هـ = 1879-1957م)
المعروف في الديار الهندية بـ«شيخ الإسلام» الذي قرأ عليه صحيح البخاري، والشيخ
الزاهد الفقيه محمم إعزاز علي الأمروهوي رحمه الله (1300-1374هـ = 1882-1954م)
الذي قرأ عليه عدداً من كتب مبادئ العربية والنحو وغيرهمان من العلوم، والعلامة
الشهم الذكي محمد إبراهيم البلياوي رحمه الله (1304-1387هـ = 1886-1967م) الذي قرأ
عليه جامع الترمذي وغيرهم من كبار مشايخ الجامعة الذين كانوا مثالاً في عمق العلم
وفهم الدين والذكر والعبادة؛ فلم يكونوا يُعَلِّمون تلاميذَهم العلومَ فقط؛ وإنما
كانوا يُشَرِّبُونهم الدينَ والتقوى كذلك؛ فكانوا يتخرجون صلحاءَ كما كانوا
يتخرجون علماءَ، وكانوا يتخرّجون مُتْقِنِين لفنّ التدريس ونَقْلِ مالديهم من
العلم والفضل إلى غيرهم، كما كانوا يتخرّجون بارعين في فنّ عيش الحياة بشكل لاتضيع
منها دقيقة سدًى وفي غير فائدة دينية أو دنيوية.
وقد
كان الشيخ محمد إعزاز علي الأمروهوي رحمه الله من بين مشايخ الجامعة مثالاً في
المحافظة على الأوقات والتقيد بالمواعيد وتوزيع أوقات الليل والنهار فيما بينه
وبين الله والخلق؛ حيث كان لايُنْفِق منها لحظةً إلاّ فيما يعنيه، وقد عُرِفَ
ضنوناً بها، حتى كان يُضْرَب به المثلُ في ذلك، وكان أحرصَ العلماء والأساتذة على
إسداء الخير إلى الطلاب وعلى إفادتهم من كل ناحية مُتَصَوَّرَة. وكان من سعادة
الشيخ خورشيد عالم رحمه الله أنه حَظِيَ بعناية الشيخ محمد إعزاز علي رحمه الله
منذ وقت مُبَكِّر من حياته الدراسيّة؛ لأنّ والده الشيخ ظهور أحمد رحمه الله
(1318-1383هـ = 1900-1963م) الذي كان من كبار أساتذة الجامعة ومن تلاميذ المحدث
الكبير العلاّمة محمد أنور شاه الكشميري رحمه الله (1292-1352هـ = 1875-1933م) شيخ
الحديث الأسبق بالجامعة كانت تربطه بالشيخ محمد إعزاز علي صلاتُ ودّ عميقة؛ فعندما
أراد بعد إنهائه حفظَ كتاب الله ودراسة مادتي الفارسية والأردية – اللتين تُعَدَّان لازمتين في شبه
القارة الهندية ومُوَطِّئَتَيْن لأرضية تعلّم العربية وعلوم الشريعة – أمره والده بأن يستشير الشيخ محمد
إعزاز علي فيما يتعلّق بمسيرته الدراسيّة للمرحلة القادمة، فتَوَجَّهَ إليه ذات
يوم بصحبة والده، واستشاره في الموضوع، فتولّى الشيخ محمد إعزاز علي تلطفاً به
تدريسَه لكتب القواعد في النحو والصرف رغم تشاغله بالأعمال الرتيبة الكثيرة، كما
تَوَلّى والدُه الشيخ ظهور أحمد تدريسَه لكتب الفنون الأخرى التي تسبق دراستُها
دراسةَ علوم الفقه والحديث والتفسير عندنا في المنهج الدراسي المُتَّبَع في
المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية التي تُخَرِّج العلماءَ.
وملازمتُه للشيخ محمد إعزاز علي منذ هذا الوقت
المُبَكِّر من الدراسة أَفَادَتْه كثيراً وهَذَّبَته إنسانًا، وعَوَّدَته
الانقطاعَ إلى الدراسة، والتعمُّقَ فيها، وزادته حفاظاً على الأوقات، والتزاماً
بالمواعيد، فبقيت انعكاساتُ ذلك كله تؤتي أكلَها دائماً في حياته حتى مماته، فلم
يُدَرِّس يوماً إلاّ صادراً عن التحضير الجيّد والدراسة المسبقة المستوعبة، ممّا
جَعَلَ تدريسَه نافعاً نفعاً ثَرًّا للطلاب في جانب، وَحَبَّبَه إليهم في جانب
آخر؛ لأن الأستاذ الذي يُتْقِن فنَّ إلقاء الدرس وإرسالَ مالديه من الأهليّة
العلميّة إلى التلاميذ يكون مُحَبَّباً لديهم قدرَ إتقانه للفنّ وتمكّنه منه مع
تضلعه من العلم ولاسيّما المادة التي يُدَرسُها. وتلك مزية ذات سعادة وبركة كبيرة
لايحظى بها إلاّ أساتذة معدودون على الأصابع ممن يريد بهم الله خيرًا لحكمة
يعلمها؛ لأنها تكسبهم الحبَّ والإعجابَ بين المستفيدين، ويكثر نفعهُم لهم، فيتخرجون
نافعين، فيكونون صدقةً جاريةً، تُرَجِّح كِفّةَ حسناتهم يومَ القيامة.
لقد
كان الشيخ خورشيد عالم من أولئك الأساتذة المعدودين الأقلاّء، فكل من قرأ عليه
واستفاد منه أو جلس إليه متعلماً أحبّه حبًّا غامرًا، ودعا له بالخير، وظلّ يتحدّث
عن إعجابه به في كل مجلس جمع بينه وبين الطلاب والمستفيدين. وكان كاتب السطور من
تلاميذه الذين أُخِذُوا بحبه، فظلّ يذكره في قلبه ويتحدث عنه بين تلاميذه، وبقي
الانطباع العميق الحلو الساحر الذي تركه تدريسُه لي ولزملائي في الدراسة في قلبي
غائرًا لم يمَّحِ ولن يَمَّحِيَ مادمتُ حيًّا؛ من ثم كان حزني على وقاته شديداً،
ترك في قلبي حَزَازًا قد لايزول. وكأني أنظر إليه وهو يدرسنا «مختصر المعاني» في
الفصل الكبير الذي يقع على يمين الداخل إلى محيط «مولسري» - الشهير بالجامعة – من البوابة الواقعة تحت مكتب رئيس
الجامعة والذي يقابل شجرة «مولسري» الضخمة المترامية الأغصان. يدرسنا بلهجته
الواضحة العذبة، وبحديثه الشيق المُنَضَّد، ويتفهيمه اللبق النافع، وهو يجول
بعينيه الوقّادتين الواسعتين –
اللتان كانتا تشفّان عن ذكائه وفطنته –
بين جميع الطلاب في الفصل، قد يبتسم وقد يجدّ حسبما تدعوه الحاجة الإلقائية، والطلابُ
كلهم شهداء بانتباههم، ملقون سمعَهم، وتنتهي الحصة كل يوم فيخرجون من الفصل وهم
ثناء عليه ودعاء له ينبعث من قلوبهم وكل شعرة في أجسامهم. جزاه الله خيراً، وأدخله
فسيح جناته، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، ولا حرمنا أجرة ولا فتننا
بعده.
وخلّف
رحمه الله إلى حرمه ابنين صالحين مثقفين بالثقافة الدينية وهما الأستاذ محمد عارف
والأستاذ المقرئ محمد واصف، وستّ بنات. والأولاد كلهم ذووأبناء وكلهم منصرفون إلى
خدمة العلم والدين.
موجز ترجمته
الاسم:
(فضيلة الشيخ خورشيد عالم بن ظهور أحمد بن منظور أحمد بن تحسين علي بن إمام علي بن
كريم الله بن خير الله بن شكر الله.
مكان الولادة: حيّ «بهائيان» أحد
أحياء مدينة «ديوبند» مديرية «سهارنبور» ولاية «أترابراديش» بالهند.
تاريخ الولادة:
15/ذوالقعدة 1353هـ الموافق 21/يناير1934م. وُلِدَ في بيت كريم توارث العلم الديني
وحفظَ القرآن وتجويدَه كابرًا عن كابر. وقد كان جدّه من الأب الشيخ منظور أحمد
(1292-1360هـ = 1875-1941م) مدرساً بجامعة دارالعلوم/ ديوبند للعلوم الرياضية،
وكان من علمائها البارعين. وأما والده الشيخ ظهور أحمد (1318-1383هـ = 1900-1963م)
فكان من كبار أساتذة الجامعة ومن تلاميذ العلاّمة المحدث محمد أنور شاه الكشميري
رحمه الله. وكان العالم الهندي الباكستاني الكبير المفتي محمد شفيع الديوبندي
(1314-1396هـ = 1896-1976م) ابن الشيخ محمد ياسين الديوبندي (1282-1355هـ =
1865-1936م) ابنَ عمّ والده الشيخ ظهور أحمد؛ حيث كان جده من الأب الشيخ منظور
أحمد (1292-1360هـ = 1875-1941م) و والد الشيخ المفتي محمد شفيع الشيخ محمد ياسين
شقيقين، وعلى ذلك فالعالم الكبير المحتل للشهرة العالمية الشيخ المفتي محمد تقي
العثماني الباكستاني ابن الشيخ المفتي محمد شفيع الديوبندي الباكستاني ينتمي إلى
بيته العلمي.
التعليم:
في 5 من عمره بدأ يتعلم قراءة القرآن الكريم من إحدى جداته السيدة «أمة الحنان»
التي كانت معروفة في «ديوبند» بقراءة القرآن الكريم بأداء حروفها عن مخارجها،
وكانت مقصد الصبية والصبيات في تعليم القرآن في المدينة؛ حيث كانت تقوم بتعليمه
لوجه الله لم تتقاضَ على ذلك رسماً من أحد.
وبعد ما أنهى قراءة القرآن بالعين، بدأ يحفظة
على الحافظ المقرئ محمد كامل في قسم التحفيظ بالجامعة، وبعدما أنهى حفظه راجعه على
مدى عام كامل على جده من الأم الشيخ الحافظ ناظم علي الذي كان من الحفّاظ المجيدين
للحفظ في المدينة؛ حيث كان ينهى قراءة القرآن عن ظهر الغيب في مجلس واحد. وبفضل
حفظه للقرآن على الحافظين الضابطين المذكورين، أتقن حفظه بحيث لم تشتبه عليه قط
نقطة من حروف القرآن لدى تلاوته عن ظهر الغيب في صلاة التراويح أو في غيرها. وكان
كثير التلاوة للقرآن عن ظهر الغيب، كلما سنحت له فرصة في الحضر والسفر كان يستغلها
في تلاوة كتاب الله.
وفي
الجامعة أنهى بعد ذلك دراسةَ كل من اللغتين الأردية والفارسية وعلوم الرياضة
وأتقنها على مدرسيها الخبراء، واجتاز امتحاناتها بامتياز. وخلال تعلمه قراءة
القرآن الكريم ودراسته اللغتين الفارسية والأردية والعلوم الرياضية أصيب ثلاث مرات
ببعض الأمراض الشديدة، التي جعلت مرحلتَه هذه من الدراسة تستغرق أكثر من السنوات
اللازمة لاجتيازها.
ثم
التحق بالجامعة عام 1370هـ، وأنهى دراسة جميع المقررات الدراسية، وتخرج منها عام
1376هـ بعد ما مكث يدرس بها جميع المقررات الدراسية في مراحلها الابتدائية
والمتوسطة والثانوية والجامعيّة لنيل شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية.
المشوار العملي
بعد
التخرج في الجامعة عمل مدرساً في دارالعلوم بمدينة «كراتشي» بـ«باكستان» التي
أسسها العالم الكبير المفتي محمد شفيع الديوبندي الباكستاني عام 1370هـ/ 1951م،
وبقي يُدَرِّس فيها إذ توفي والده الشيخ ظهور أحمد رحمه الله يوم 12/ربيع الأول
1383هـ الموافق 5/يوليو 1963م، فعاد إلى الهند، وعُيِّن أستاذًا بالجامعة
الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند عام 1383هـ/1963م بعد الامتحان النصف السنوي، وبدأ
يقوم بتدريس كتب هامة في الفقه والعقيدة والمنطق، أمثال: شرح الوقاية، وشرح
العقائد النسفية، وملاّحسن، وسلم العلوم. ومنذ 1983 حتى 1402هـ بقي يقوم بالجامعة
بتدريس كتب شتى العلوم بما فيها التفسير والحديث والفقه والمعاني والبيان وعلوم
العربية والمنطق والفلسفة إلى جانب تحمله أعباء مناصب إدارية في بعض الفترات، فعمل
مديرًا للسكن الطلابي، ومراقباً للجنة إطعام الطلاب، وعضواً في لجنة دارالإفتاء
وعضواً في لجنة دارالقضاء، وعضوا في المجلس التعليمي بالجامعة وعضوا في لجنة إدارة
الجامعة، وعمل مشرفاً على الأقسام التعليمية بالجامعة.
وفي
عام 1402هـ/1982م حدثت ثورة بالجامعة لأسباب يطول ذكرها، فأُسِّسَتْ مدرسةٌ باسم
«دارالعلوم وقف» بجامع «ديوبند» فوُلِّي فيها إلى جانب التدريس عدةَ مناصب بما
فيها منصب نائب الرئيس، فقام بإدارتها عن جدارة وأهلية؛ لكنه استقال منها عام
1412هـ/1992م لظروف صحيّة، وبقي أستاذًا يقوم بتدريس كتب الحديث بما فيها كتاب
«صحيح مسلم» الذي قام بتدريسه طوال سنوات طويلة، ثم وُلِّي تدريس «صحيح البخاري»
الذي درسه كذلك سنوات طويلة. وبذلك فقد درس العلوم الشرعية أكثر من 56 عاماً.
كما
نقل إلى الأردية فتاوى العالم الهندي الشهير الشيخ عبد الحيّ اللكنوي رحمه الله
(1264-1304هـ = 1848-1886م) وطبع باسم «فتاوى عبد الحي» وقام بتحقيق وتعليق على
الترجمة الأردية لسنن أبي داود، التي صدرت مطبوعة بباكستان.
عاش الشيخ خورشيد عالم حياةً حافلةً بخدمة
العلم والدين والطلاب، حياةً كلّها –
فيما نعلم – زهد وعفاف وانقطاع إلى الدراسة والتدريس، وخدمة لكل من كان
يعوله من الأهل والأولاد وذوي القربى. ولم يُعْهَد أنه أنفق أي لحظة من حياته فيما
لايعنيه، فجزاه الله خيراً عن كل محبيه، وأدخله جنة الفردوس، ووفق من يحبه أن
يهتدي بهديه، ويسير سيرته، وكَثَّر أمثاله بقدرته. وصلى الله وسلم على عبده ونبيه
الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه أجمعين، والحمد
لله رب العالمين.
(تحريراً
في الساعة 11 من ضحى يوم الجمعة: 24/ ربيع الأول 1433هـ الموافق 17/فبراير 2012م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ
= أبريل - مايو 2012م ، العدد : 5 - 6 ، السنة : 36